قصة معبرة و جميلة باللهجة المصرية منقولة من أحد حسابات الفايسبوك و هي تجسد حياة الطيبين و البسطاء و أهل الخير و الإخلاص
في أواخر سنة 1990 نزلت عائلتي من الكويت واستقرت في مصر بعد رحلة هروب مخيفة من الغزو العراقي للكويت !
ساعتها نزلنا مؤقتا في بيت جدي في أبراج عثمان في المعادي لحد ما أمي استلمت شقتها في نفس المكان.
انا كنت صغير ساعتها في تالتة ابتدائي ، وجدي كان خايف عليا من الآثار النفسية للحرب ، فكان دايما يقول لي : انت لازم تنزل تتعرف على الأولاد اللي في سنك ، وكان بياخدني من إيدي وينزل يعرّفني على الأولاد عشان ألعب معاهم ، لحد ما بالفعل كوّنت صُحبة صغيرة من أولاد المنطقة !
وفي يوم واحنا بنلعب كورة تحت ، العصر أذّن ، فواحد من الأولاد قال لي : تيجي تصلي معانا العصر في المسجد ؟
قلتله : في المسجد ؟؟ هنروح لوحدنا ؟؟
فقال : لأ ، احنا بنروح نصلي مع الشيخ محمد !
قلتله : الشيخ محمد مين ؟
واحنا بنتكلم - لقيت شاب (30 سنة تقريبا) بلحية صغيرة كدة جاي بيمشي بسرعة ، أول ما شافنا قال : أهلااااان .. يلة بينا يا ولاد على المسجد ؟؟
وبعدين شافني .. فقال : أهلا أهلا .. مين ؟
فالولد قال له : ده اسمه (عماد) ساكن جديد هنا
فقال : ايه رأيك يا عمدة تيجي تصلي معانا في المسجد ؟
فضلت مكسوف وساكت ..
فقال : بتحب تسوق العربيات ؟
قلتله : عربيات ؟؟ إزاي ؟؟
فقال : احنا عندنا نظام هنا ، اللي يصلي 4 فروض معانا في المسجد (ظهر وعصر ومغرب وعشاء) بعلّمه السواقة على العربية بتاعتي بعد صلاة العشاء ! ولو صليت الفجر تاخد لفة حوالين المنطقة كلها (بس تستأذن بابا الأول) !
في الحقيقة أنا انبهرت لدرجة إني روحت معاهم المسجد من غير ما استأذن أمي ولا جدي !
دخلت مسجد (المدينة المنورة) - جمب أبراج عثمان المعادي - لأول مرة في حياتي .. لقيت عدد كبير جدا من الأولاد جايين يصلوا مع الشيخ محمد ده ! أولاد بمختلف الأعمار ، من أول 6 سنين مثلا لحد 20 سنة تقريبا !!
وبالفعل ، الولاد كلهم حافظين النظام ! بعد صلاة العشاء هووووب يجروا كلهم على عربية (فيات 128) صغيرة بتاعت الشيخ محمد ، تبص من بعيد تفتكرها جبلاية قرود من كتر العيال اللي قاعدين جواها وعليها وفوقيها ، والكل مستني حصة السواقة بتاعته بعد ما أتم الـ4 فروض جماعة في المسجد ! بدأنا الدروس : حط رجلك على الدبرياج ، إدي أولاني وزوّد سِنَة بنزين وشيل سِنَة دبرياج ، بص أدامك ، يمين وشمال قبل ما تحود .. وهكذا لحد ما كلنا اتعلمنا السواقة !! كان ساعتها أدام المسجد فيه ساحة فاضية كبيرة أوي (مكان مول فاميلي لاند دلوقتي) ، وبعد ما نخلص كلنا دروس السواقة ، نبدأ متشات الكورة
!!
بس .. ودي كانت بداية معرفتي بالأسطورة (محمد شَغَبي) !!
الشيخ محمد أو (محمد الشغبي) أو (أبو الشَغَب) كان اسطورة بمعنى الكلمة ! كان ساكن معانا في أبراج عثمان ، مكنش له وظيفة محددة ، كان شغال حُر، مرة يفتح مطعم ، ومرة يعمل مشروع ، ومرة يجيب تاكسي ويشغله .. لكن كانت حياته كلها متعلقة بالمسجد وأهل المسجد !! ربنا ما رزقهوش بالذرية ، ومراته كمان ماكنتش مصرية فحتى مكنش عارف يتبنى طفل (الإحتضان) ! ودي كانت أكبر نعمة ربنا أنعمها عليه وعلينا !! لإنه اتحرم من الذرية - فكان أب وأخ لكل أولاد المنطقة !! كان بيحب الأطفال جدا جدا ، وكان كل هدفه وتركيزه إنه يعلق الأطفال بالمسجد !! كان عنده عربية 128 مسخرها لتعليم الأولاد السواقة عشان يشجعهم ويربطهم بالمسجد ! وكان على تواصل بجميع أولياء الأمور في المنطقة ، لو أي ولد عمل مشاكل في البيت كانوا بيكلموا (شغبي) عشان يكلمه ويأثر عليه !! وكان عامل لنا نظام ! نتعلم سواقة طول ما حنا بنصلي .. وقت الامتحانات مفيش لعب كورة عشان المذاكرة !
كان بيقعّد الولاد بعد الصلاة في المسجد ويحفّظهم الأذكار كلها ! كلهم مع بعض بصوت عالي لحد ما كل الولاد حفظوا (حصن المسلم) !
ياما حصل مشاكل بينه وبين عواجيز المسجد بسبب زعيقهم للأطفال !!
كان دايما يقول هم دول المستقبل ، محدش يكلم طفل في المسجد وأنا موجود ! أي حد يعمل حاجة الكلام معايا أنا !
مرة بعد صلاة العشاء اتأخر شوية في المسجد عشان كان فيه اجتماع مع لجنة الزكاه ، وكان العيال كلها قاعدين فوق العربية منتظرين يطلع عشان نبدأ السواقة ، كان الدور عليا يومها فكنت قاعد مكان السواق وقاعد بزمّر كتير عشان يطلع ، راح طالعلي الدكتور خيري (الله يرحمه ويحسن إليه) مدير لجنة الزكاه وقال : مين الحمار اللي بيضرب كلاكسات ده ؟!
وقفله شغبي وقال له حرام يا دكتور الشتيمة دي اتقي الله انت في المسجد ، سيبني أنا همشيهم دلوقتي !
ودي كانت أول مرة في حياتي أعرف إن الشتيمة "حرام" ! كنت فاكرها عيب بس !!
سبحان الله ، مرت السنين ، ورجعت تاني الكويت سنة 1993 وانقطعت علاقتي بيهم ، لحد ما خلصت ثانوية عامة ورجعت مصر تاني على الجامعة .. ودخلت مسجد المدينة بعد غياب سنين .. وألاقي برضه (الشغبي) قاعد في المسجد وحواليه أجيال جديدة من الأولاد ، بيصلوا ، ويحفظوا الأذكار ، ويطلعوا يلعبوا كورة ويتعلموا سواقة على عربيته الجديدة (تويوتا كريسيدا) قديمة ومهكعة برضه
(شغبي) كان أسطورة فعلا ، راجل دمه خفيف وكوميدي ومرح ، محب جدا للدين وأهل الدين ، ومسخر جزء كبير من حياته في أعمال الخير وخدمة المسجد وأهله !
من حوالي 15 سنة كان نفسه يطلع يحج ، بس مكانش معاه فلوس ، قال أنا هطلع أعمل عمرة في رمضان ، وافضل في مكة مستخبي لحد الحج !! قلتله وهتبات فين ؟؟ قال لي في الحرم !!
قلتله هتقعد 3 شهور تنام على الأرض من غير بيت ولا حمام ؟؟ 3 شهور بايت في الحرم ؟
قال لي : هو أنا أطول !!
وسبحان الله راح فعلا وقعد 3 شهور ورجع قلبه طاير في السماء !! بعدها قلب الدنيا لحد ما عمل إقامة في السعودية وبقا يروح عمرة وحج كل سنة !!
كان غريب جدا ، وكان عنده زهد في الدنيا بشكل غريب ! ودايما يتكلم عن لقاء الله وحُسن الخاتمة !
رغم إنه كان بسيط في حياته وكلامه وكل حاجة ، لكن ربنا جعله سبب في ثباتي وتغيير قناعاني في مواقف كتير !
مرة وانا في الجامعة اللابتوب بتاعي باظ ، وبعدها عربيتي اتخبطت ، كنت ماشي مهموم فقال لي : ياعم احمد ربنا إن عندك لابتوب بيبوظ وعربية بتتخبط !! كلمتين في منتهى البساطة من القلب للقلب كانوا بيفرقوا معايا على طول !
ومرة كانت الدنيا متقفلة في وشي وقابلته في صلاة جنازة ، فضل يكلمني عن الموت وعن حقيقة الدنيا لحد ما غير قناعاتي في حاجات مكنتش كلمته عنها أساسا !!
30 سنة من ساعة ماعرفته والشغبي على وضعه .. مفيش عمل خير غير وتلاقيه ، مفيش حاجة ليها علاقة بالمسجد غير وتلاقيه ، دايما متبنى كل أطفال المنطقة وبيربي أجيال ورا أجيال ..
السنة اللي فاتت في (5 رمضان) زي اليومين دول بالظبط ، اتصل بصديقنا عبده وقال له أنا عاوز أجيلك المكتب !
راح المكتب وقعد معاه ، قال له : فاكر الوصية بتاعتي ؟
فقال : فاكرها ، بس ايه اللي جاب السيرة دلوقتي ؟؟
فقال الشغبي : خلاص بقا .. كفاية كدة !
وبدأ يوصيه ، قال له : اتصل دلوقتي بالمهندس فلان .. قل له يجهزلي (لَحد) في المقابر الشرعية بتاعته !
عبده قال : لحد مين يا شغبي !! فيه ايه ياعم ؟؟
فقال : ياعم اسمع الكلااااااااام .. (( هو طبيعته كان عنده حتة عصبية كوميدية كدة ، ما يحبش حد مننا يقاوح معاه ، لما كنت بعترض على كلامه كان دايما يقول لي : بس ياض ياعماد يا شريف ياااااااااه ))
فسمع كلامه واتصل بالمهندس ، قال له شغبي معايا وبيقولك جهزله لحد .. فقال له : مين عارف مين فينا هيروح قبل مين يا شغبي ؟؟ فقال : لأ .. أنا خاين ، وهسبقكم كلكم !!
بعدها قال : اتصل بفلان (رفيقه في الحج والعمرة) قل له كان نفسي أموت في الحرم ، بس مفيش نصيب .. قل له هو اللي يصلي عليا الجنازة ، ويسلم تسليمة واحدة زي ما بيعملوا في الحرم !! .. وبالفعل اتصل بيه وقال له !
وبعدين قال له : انت ياعبده اللي تقف على الغسل ، إنت وفلان وفلان !!
قال له : حاضر .. (بياخده على قد عقله) !
قال طيب .. همشي انا بقا .. هتوحشوني ، السلام عليكم !! ومشي !!
في نفس اليوم ده باليل اتسحّر ، وكانت ساعتها في عز الكورونا وكل المساجد مقفولة والناس محبوسة في بيوتها ، مكنش بيتسحمل يصلي لوحده ، كان بينزل هو والبواب وابن البواب يصلوا جماعة مع بعض في مدخل العمارة !!
نزل صلى الفجر ، وطلع البيت فضل يذكر الله ويقول أذكار الصباح لحد الشروق ، وبعدها دخل اتوضى عشان يصلي الضحى .. خرج من الحمام ، وقف عشان يصلي .. وقع على الأرض .. وفاضت روحه الجميلة إلى بارئها سبحانه وتعالى !!!
سبحان الله .. كان قلبه حاسس إنه هايموت !!
مات في رمضان، وهو صايم، ومصلي الفجر في جماعة، وآخر كلامه من الدنيا ذكر الله سبحانه وتعالى
سبحان الله "من عاش على شيء مات عليه"!
في (6 رمضان 2020) .. انتقل حبيب الأطفال ومُربي الأجيال ، حبيب المساجد وأعمال الخير (مُحمد شَغَبي) إلى ربه الكريم (سبحانه وتعالى) وهو عنده 60 سنة !! قضى أغلبهم في الدعوة والعبادة وخدمة المساجد وتربية الأجيال !!
وفي عز الكورونا وعز الحظر والقفلة - اتنفذت وصيته بالحرف !! صلى عليه رفيق الحج والعمرة ، واتدفن في (لّحد) في المقابر الشرعية ، وأهل المعادي كلهم كلهم كلهم صلوا عليه الجنازة !! في نفس الساحات اللي كان بيعلم فيها الأولاد السواقة، وبيلعبهم فيها كورة – وقفوا كلهم جيل ورا جيل يصلوا عليه ، من أول المجموعة بتاعتنا موالد السبعينات والتمانينات ـ لحد مواليد 2010 و 2012 !!! أجيال وراء أجيال وقفت تشهد أمام الله على فضل وصلاح الراجل البسيط الطيب الطاهر المخلص ده ! وقفوا يدعوله ويبكوا عليه .. وعلى مثل شغبي تبكي البواكي
أحسبه والله حسيبه - ولا أزكي على الله أحدا !! للأسف مكنتش موجود أنا في رمضان اللي فات هنا ، بعتولي رسالة بخبر الوفاة ، وصليت عليه الغائب أنا وكل اللي كانوا معايا !!
الله يرحمك يا حبيبي يا شغبي ، أسأل الله تعالى في عليائه فوق عرشه ، أن يجعل كل ركعة وكل سجدة وكل ذكر ذكرته لله أنا والشباب والأطفال في ميزان حسناتك يوم القيامة !!
أرجوا من الله أشوفك يوم القيامة مع حبيبك النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو واقف يتباهي بيك أدام الخلق أجمعين زي ما حببت الناس في سُنته ، وكل الأجيال اللي دخّلتها وعلقت قلبها بالمساجد واقفين يشهدولك يا حبيب قلبي
الله يرحمك يا شغبي .. اللهم أنزل على قبرة النور كما أنار قلوبنا الصغيرة
اللهم إني أشهدك أنه علق قلوبنا ببيتك ، فأظلّه بظلك يوم لا ظل إلا ظلك
اللهم وبلّغهُ مِنّا السلام ، واجمعنا به في فردوسك الأعلى مع حبيبك صلى الله عليه وسلم ..
آمين آمين آمين .. ادعوله كتير بالله عليكم .. نفسي يفرح بينا النهارده في قبره.
عماد الشريف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق