تاج الصمت
في زقاق ضيق من أحياء المدينة القديمة، حيث يتداخل الحاضر مع عبق الماضي، وقفت زينب أمام مرآتها الخشبية المتشققة. تأملّت انعكاسها، ثم رفعت يديها برفق وثبّتت العمامة التي ورثتها عن جدتها، تلك التي حيكت بخيوط الصبر والكرامة.
كانت ألوانها الزاهية تحكي قصة أجيال، كل طيّة فيها تحمل سرًا من أسرار النساء اللاتي سبقنها، وكل خيط يروي فصولًا من الألم، الفخر، والنجاة. مرّرت أصابعها فوق الخيوط الفضية المتشابكة بين القماش، لامست السلسلة المعدنية التي خطّها الزمن بلون الصدأ. تذكرت حين كانت طفلة، كيف كانت جدتها تروي لها عن "تاج الصمت"، كما أسمته. كانت تقول: "إنها ليست مجرد عمامة يا صغيرتي، بل درعٌ يحفظ تاريخنا، هويتنا، وأحلامنا التي لن تسقط أبدًا." كبرت زينب، وكبرت معها الحكايات التي خُبئت في طيات هذا القماش.
في قريتها، كان الصمت لغة النساء، لكنه لم يكن استسلامًا، بل حكمةً مختبئة خلف نظراتهن العميقة. كنّ يتحدثن دون أن ينطقن، يكفي أن تلتقي العيون لتُقال القصائد، أن تتحرك الأصابع برقةٍ على الخد لتُكتب الروايات.
في ذلك الصباح، حين قررت زينب أن ترتدي تاجها أمام الملأ، لم تكن مجرد فتاة أخرى تسير في الشوارع، بل كانت سليلَة إرثٍ عتيق، امرأة تقف بين شظايا الأمس وبدايات الغد. أضاءت خرزة العنبر المعلقة في أذنها كما لو أنها تحمل نبوءةً غير مكتوبة، وتلألأت حبات اللؤلؤ بين أصابعها كأنها تشهد على صمت النساء اللواتي حملن أحلامًا أكبر من أن تُحكى. خرجت إلى السوق، بخطوات هادئة لكن راسخة. لم تكن بحاجة لكلمات لتخبر الجميع من تكون. كانت عمامتها تحكي، عيناها تروي، وسكونها يصرخ بأعلى صوت:
"أنا هنا... وسأُسمعكم حكاية لم تعتادوا سماعها."
القصة الثانية: نيران القدر
كانت تُدعى "ليانا"، وكأن اسمها وُلد مع النار التي تسكن عينيها وشعرها المتوهج. وُلدت في قرية على تخوم البحر، حيث الرياح تعصف بالرمال والناس يحكون عن أساطير البحّارة والأمواج التي تبتلع السفن. لم تكن كأي فتاة في قريتها، كانت مختلفة، وكأن القدر خطّ لها طريقًا لا يشبه سواها.
منذ صغرها، كانت تجذب الأنظار بشعرها المتماوج كألسنة اللهب، بعينيها اللتين تحويان أسرار البحر وعواصفه. لم تكن تخشى التحديق في الشمس، بل كانت تقف تحتها لساعات، كأنها تستمد قوتها من نورها، كأنها لم تُخلق إلا من ضوء ونار. لكن في أعماقها، كانت تحمل سرًا لم يجرؤ أحد على لمسه. فقد وُلدت بنبوءة غامضة، حكتها عجوز عمياء عند ولادتها، نبوءة قالت إنها ستكون "شعلة التغيير" في زمانٍ سيفقد فيه البشر نورهم.
لطالما تجاهلتها، معتقدة أنها مجرد كلمات مجنونة من عجوز على حافة الموت. لكن الأيام أثبتت أن بعض الكلمات تحترق في القلب ولا تُمّحى. في إحدى الليالي، هاجمت القرية مجموعة من الغرباء، رجال بأقنعة سوداء، يحملون سيوفًا تلمع كأنها مسحوبة من أعماق الجحيم. لم يكن أحد مستعدًا.
اشتعلت النيران في البيوت، وتعالى الصراخ في الأرجاء، لكنها لم تركض كما فعل الجميع، لم تهرب كما فُرض على النساء. وقفت في وسط العاصفة، شعرها يتطاير كأن الرياح تُراقصه، عيناها تومضان بتصميم لم يعرفه أحد من قبل. أمسكت بشعلة نارية من أقرب منزل مشتعل، رفعتها عاليًا كأنها تُعلن الحرب، ثم تقدمت.
كانت وحدها في البداية، لكنها لم تبقَ كذلك. بدأ الناس يستعيدون شجاعتهم، بدأت القلوب تشتعل مثلها، وتحولت القرية بأكملها إلى عاصفة من النيران ضد أولئك الغزاة. لم يكن الانتصار سهلاً، لكنه كان محتومًا.
عندما انطفأت آخر شعلة في الأفق، نظرت إلى الأفق البعيد، إلى البحر الذي ظل يراقبها بصمت طوال حياتها. عرفت حينها أنها لم تعد مجرد فتاة منسية في قرية صغيرة، بل أصبحت قصة ستُحكى للأجيال، نارًا لا تُطفأ، واسمًا لا يُنسى. كانت ليانا، وكانت الشعلة التي غيرت كل شيء.
القصة الثانية: حين تسكن الروحُ المدينة
في مدينةٍ لا تنام، حيث الحجر يحفظ الأسرار، وتتنفس الأزقة عبق الأبدية، كانت القدس تقف شامخة، كأنها تتحدى الزمن وتُحادث الغيب.
كانت قبة الصخرة تلمع في الليل كنبض قلب عاشق، ينبض رغم كل ما حوله من وجعٍ وصمت. لكن في تلك الليلة، لم تكن القدس وحدها... كانت هناك عيناها. ظهرت في السماء فوق القبة، كأنها طيف امرأة عاد من الذاكرة، أو ربما لم تغادر يومًا. عيناها مغمورتان بحنانٍ لا يُشبه الحنين، بل يشبه الوطن حين يحتضنك دون شرط، وشفتيها تميلان بابتسامة فيها كل أسرار العشاق والأنبياء.
قال الناس إنها "روح المدينة"، التي هُجرت قديمًا، حين هجر الناس قلوبهم، لكن المدينة لم تنسها. كانت هي من قرأت ذات يوم في كتابها عن القدس، عن الجدار الذي بكى حين فقد ظلَّ امرأة، عن الزهرة التي سُقيت بالدمع فأنبتت وردةً حمراء فوق قلبها. كانت الروح تطوف كل ليلة، تُقبل القبة من السماء، وتُهدهد الجدران بكلمات لم يُسجلها التاريخ، لكنها محفوظة في ذاكرة المكان.
كانت وردتها الحمراء تحملها على صدرها، لا ذابلة ولا يانعة، بل خالدة مثل القدس، مثل تلك العيون التي لا تزال تسأل: "متى نعود؟" وفي كل فجر، حين يذوب الطيف، وتُطفئ المدينة مصابيح الحنين، يبقى الأثر على القبة: ضوءٌ ليس من الشمس، ولا من المصابيح، بل من قلبٍ أحب القدس حتى صار منها.
بقلم أم غادة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق