لص يوم السبت رائعة الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز
سلمى علي أبو فلاحة
كاتبة من الأردن
💜💜💜
💜💜💜
💜💜💜
💜💜💜
💜💜💜
💜💜💜
حين نحاول أن نفهم علاقة الفيلسوف الألماني هيجل بالإسلام، فإننا لا ننظر فقط إلى رأي شخصي في دينٍ معين، بل إلى مأزق فلسفي عميق عاشه هيجل داخل نموذجه النظري عن التاريخ. هذا المأزق يتمثل في ما يُعرف بـ"التضارب الزمني" أو الاختلال في تسلسل الأحداث، وهو ما جعل ظهور الإسلام بعد المسيحية يشكل معضلة حقيقية داخل منظومة هيجل الفكرية.
هيجل لم يكن مؤرخًا تقليديًا. لقد كان يؤمن أن التاريخ ليس فقط سلسلة من الأحداث، بل إنه تعبير عن تطور الروح أو العقل المطلق (Geist). كان يرى أن لكل مرحلة تاريخية معنى فلسفي، وأن الروح تتحرك عبر صراعات ومراحل، نحو الحرية والعقلانية الكاملة.
في هذا السياق، كان يرى في المسيحية الدين الأعلى، لأنه – حسب فهمه – عبّر عن الفكرة الكاملة للحرية: "الله يتجسد في الإنسان، أي أن الإنسان يحمل في ذاته الألوهية." وهنا، تصبح المسيحية هي النهاية المنطقية للتطور الديني، بحسب هيجل.
الباحثة Sai Bhatawadekar تطرح هذا التساؤل صراحةً:
"إذا كانت المسيحية قد جاوزت الإسلام، فكيف لنا أن نفسر ظهور الإسلام بعد المسيحية؟"
أما Jean-Joseph Goux، فقد رأى أن التسلسل الذي نعرفه (موسى، عيسى، محمد) كان "معضلة حقيقية" بالنسبة لهيجل. والسبب أن الإسلام، وفقًا لهذا الترتيب، يأتي في خاتمة التاريخ الديني، بينما النموذج الهيجلي يريده أن يكون وسطًا أو تمهيدًا للمسيحية، لا تاليًا لها.
اليهودية = توحيد مباشر
المسيحية = تعقيد عبر التثليث
الإسلام = توحيد شامل يتجاوز التثليث
وبهذا، يصبح الإسلام عودة أعلى (sublation) للتوحيد، تتجاوز المسيحية دون أن تنكرها بالكامل.
لكن هل يوافق هيجل على هذا الترتيب؟ وهل يقبل أن الإسلام هو المجاوزة الحقيقية؟
أن يقطع مع المرحلة السابقة
أن يحتفظ بجوهرها في الوقت نفسه
وهكذا، تبقى قراءة جيجيك غير مقبولة تمامًا داخل النموذج الهيجلي، رغم طرافتها الفلسفية.
تكمن المشكلة الأساسية في فلسفة هيجل التاريخية في هذا الفارق بين:
التاريخ كما وقع فعلاً (الإسلام جاء بعد المسيحية)
والتاريخ كما يجب أن يقع وفقًا للنموذج النظري (المسيحية يجب أن تكون الختام)
ربما علينا اليوم أن نعيد التفكير في تلك النماذج المغلقة، ونتعلم من هيجل أهمية السؤال، لا الاكتفاء بالإجابات الجاهزة.
حين نتأمل شخصية ليوناردو دا فينشي، لا نراه مجرد رسّام أو عالم، بل مفكرًا عاشقًا للتفكير، يرى في الفن وسيلة لفهم الكون.
لم يكن الرسم عنده أداة للتزيين أو للتعبير الجمالي فحسب، بل كان فلسفة حية، كما عبّر عن ذلك الكاتب الفرنسي بول فاليري حين قال:
"ليوناردو رسام، وأعني بهذا أنه جعل من صباغته فلسفته... إنه يرد الأشياء كلها إلى الصباغة."
هذه الكلمات لا تصف فقط شغف ليوناردو، بل تكشف كيف كان يرى الرسم أداة لفهم العالم، تمامًا كما يستخدم الفيلسوف التأمل أو يستخدم العالم التجربة.
كان ليوناردو يؤمن أن الرسم ليس مجرد محاكاة للطبيعة، بل هو وسيلة لاكتشاف القوانين التي تحكمها.
فحين يرسم جناح طائر أو عضلة في جسم إنسان، لا يفعل ذلك فقط لجمال الشكل، بل ليستكشف كيف يعمل الجسد، وكيف تتكامل الحركات، وكيف تتفاعل الأجزاء مع الكل.
ولهذا السبب، أمضى سنوات طويلة يدرس تشريح الإنسان، وفتح الجثث بنفسه ليرسم أدق تفاصيل القلب والدماغ والعظام.
كان يرى أن فهم الجسد شرط أساسي لفهم الحياة، وأن الفنان الحقيقي يجب أن يكون عالمًا أيضًا.
من أشهر أعمال ليوناردو لوحة العشاء الأخير، لكنها ليست مجرد مشهد ديني يروي لحظة من حياة المسيح.
في هذه اللوحة نرى كيف يستخدم ليوناردو الضوء والظل ليعبر عن المشاعر، وكيف يرتب الشخصيات بعناية ليجعلنا نشعر بالتوتر والدهشة التي حدثت بعد إعلان المسيح أن أحدهم سيخونه.
الرسم هنا ليس وصفًا، بل تحليل للموقف، وتعبير عن النفس البشرية في لحظة توتر أخلاقي.
هذه هي الفلسفة التي قصدها فاليري: تحويل الحدث إلى فكرة، وتحويل المشهد إلى سؤال مفتوح عن الطبيعة الإنسانية.
أكثر ما يميز دا فينشي هو الدمج بين الفن والعلم.
كان لا يفرق بين التجربة العلمية والخيال الفني.
ففي دفاتره، نرى رسومات لأجهزة طيران وآلات هندسية، إلى جانب ملاحظات عن الضوء والمنظور والتشريح.
كان يؤمن أن الفنان الحقيقي لا يرسم فقط ما يراه، بل ما يفهمه، وأن الفهم لا يأتي إلا بالبحث والدراسة.
ربما يبدو ليوناردو شخصية نادرة في التاريخ، لكن فكرته عن الفن كطريق لفهم العالم لا تزال ملهمة اليوم.
في زمننا الذي يجمع بين التكنولوجيا والفن، يمكن لكل واحد منا أن يجد في مجاله الخاص فلسفته الخاصة، سواء كان ذلك في الكتابة أو التصميم أو البرمجة أو حتى الطبخ.
الرسالة التي يتركها لنا ليوناردو واضحة:
لا تكتفِ بممارسة مهنتك، بل اجعل منها طريقة لفهم الحياة.
حين "يتكلم ليوناردو صباغة كما يتكلم غيره فلسفة"، فإنه يدعونا لأن نعيد النظر في الفنون والمعرفة، وأن نكسر الحواجز بين التخصصات، وأن نرى في كل فعل إنساني طريقًا للتفكير.
وربما كان هذا هو سر عبقريته: أنه لم يضع حدودًا بين الفن والعلم، بل رأى في كليهما لغة لفهم العالم.